الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الفوائد **
الدنيا كامرأة بغيّ لا تثبت مع زوج إنما تخطب الأزواج ليستحسنوا عليها، فلا ترضى بالدياثة. حلفت لنا ألا تخون عهودنا ** فكأنها حلفت لنا ألا تفـــــي السير في طلبها سير في أرض مسبعة(1) طائر الطبع يرى الحبة وعين العقل ترى الشرك، غير أن عين الهوى عمياء: تزخرفت الشهوات لأعين الطباع فغض عنه الذين يؤمنون بالغيب ووقع تابعوها في بيداء الحسرات فـ لما عرف الموفقون قدر الحياة الدنيا وقلة الحياة الدنيا وقلة المقام فيها أماتوا فيها الهوى طلباً لحياة الأبد لما استيقظوا من نوم الغفلة استرجعوا بالجد ما انتهبه العدو منهم في زمن البطالة فلما طالت عليهم الطريق تلمحوا المقصد فقرب عليهم البعيد، وكلما أمرت لهم الحياة حلا لهم تذكر: حدوا عزمات ضاعت الأرض بينها ** فصار سراهم في ظهور العزائم(2) تريهم نجوم الليل ما يتبعونه ** على عاتق الشعرى(3) من أعجب الأشياء أن تعرفه ثم لا تحبه، وأن تسمع داعيه ثم تتأخر عن الإجابة، وأن تعرف قدر الربح في معاملته ثم تعامل غيره، وأن تعرف قدر غضبه ثم تتعرض له، وأن تذوق ألم الوحشة في معصيته ثم لا تطلب الأنس بطاعته، وأن تذوق عصرة القلب عند الخوض في غير حديثه والحديث عنه ثم لا تشتاق إلى انشراح الصدر بذكره ومناجاته، وأن تذوق العذاب عند تعلق القلب بغيره ولا تهرب منه بنعيم الإقبال عليه والإنابة إليه. وأعجب من هذا علمك أنك لا بد لك منه وأنك أحوج شيء إليه وأنت عنه معرض، وفيما يبعدك عنه راغب. ما أخذ العبد ما حرم عليه إلا من جهتين: إحداهما: سوء ظنه بربه، وأنه لو أطاعه وآثره لم يعطه خيراً منه حلالاً، والثانية: أن يكون عالماً بذلك، وأن من ترك لله شيئاً أعاضه خيراً منه، ولكن تغلب شهوته صبره وهواه عقله، فالأول من ضعف علمه والثاني من ضعف عقله وبصيرته. قال يحيى بن معاذ(5) قلت: إذا اجتمع عليه قلبه وصدقت ضرورته وفاقته وقوي رجاؤه فلا يكاد يرد دعاؤه. لما رأى المتيقظون سطوة الدنيا بأهلها وخداع الأمل لأربابه، وتملك الشيطان وقيادة النفوس رأوا الدولة للنفس الأمارة لجئوا إلى حصن التضرع والالتجاء كما يأوي العبد المذعور إلى حرم سيده. شهوات الدنيا كلعب الخيال، ونظر الجاهل مقصور على الظاهر، فأما ذو العقل فيرى ما وراء الستر. لاح لهم المشتهَى فلما مدوا أيدي التناول بان لأبصار البصائر خيط الفخ فطاروا بأجنحة الحذر وصوبوا إلى الرحيل الثاني وقع ثعلبان في شبكة، فقال أحدهما للآخر: أين الملتقى بعد هذا؟ فقال: بعد يومين في الدباغة. تالله ما كانت الأيام إلا مناماً فاستيقظوا وقد حصلوا على الظفر. ما مضى من الدنيا أحلاماً وما بقي منها أماني، والوقت ضائع بينهما. كيف يسلم من له زوجة لا ترحمه وولد لا يعذره وجار لا يأمنه وصاحب لا ينصحه وشريك لا ينصفه وعدو لا ينام عن معاداته ونفس أمارة بالسوء ودنيا متزينة وهوى مرد وشهوة غالبة له وغضب قاهر وشيطان مزين وضعف مستول عليه، فإن تولاه الله وجذبه إليه انقهرت له هذه كلها، وإن تخلى عنه ووكله إلى نفسه اجتمعت عليه فكانت الهلكة. لما أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسنة والمحاكمة إليهما واعتقدوا عدم الاكتفاء بهما، وعدلوا إلى الآراء والقياس والاستحسان وأقوال الشيوخ، عرض لهم من ذلك فساد في فطرهم وظلمة في قلوبهم وكدر في أفهامهم ومحق في عقولهم، وعمتهم هذه الأمور وغلبت عليهم حتى ربي فيها الصغير، وهرم عليها الكبير، فلم يروها منكراً، فجائتهم دولة أخرى قامت فيها البدع مقام السنن، والنفس مقام العقل، والهوى مقام الرشد، والضلال مقام الهدى، والمنكر مقام المعروف، والجهل مقام العلم، والرياء مقام الإخلاص، والباطل مقام الحق، والكذب مقام الصدق، والمداهنة مقام النصيحة، والظلم مقام العدل، فصارت الدولة والغلبة لهذه الأمور، وأهلها هم المشار إليهم، وكانت قبل ذلك لأضدادها، وكان أهلها هم المشار إليهم. فإذا رأت دولة هذه الأمور قد أقبلت، وراياتها قد نصبت، وجيوشها قد ركبت، فبطن الأرض والله خير من ظهرها، وقلل الجبال خير من السهول، ومخالطة الوحش أسلم من مخالطة الناس. اقشعرت الأرض وأظلمت السماء، وظهر الفساد في البر والبحر من ظلم الفجرة، وذهبت البركات وقلت الخيرات وهُزلت الوحوش، وتكدرت الحياة من فسق الظلمة، وبكى ضوء النهار وظلمة الليل من الأعمال الخبيثة والأفعال الفظيعة، وشكا الكرام الكاتبون والمعقبات إلى ربهم من كثرة الفواحش وغلبة المنكرات والقبائح، وهذا والله منذر بسيل عذاب قد انعقد غمامه، ومؤذن بليل بلاء قد ادلهم ظلامه، فاعزلوا عن طريق السبيل بتوبة نصوح ما دامت التوبة ممكنة وبابها مفتوح، وكأنكم بالباب وقد أغلق، وبالرهن وقد غلق(7) اشتر نفسك اليوم فإن السوق قائمة والثمن موجود والبضائع رخيصة. وسيأتي على تلك السوق والبضائع يوم لا تصل فيها إلى قليل ولا كثير. ذلك يوم التغابن، يوم يعض الظالم على يديه: ندمت على ألا تكون كمثلـــــــه ** وأنك لم ترصد كما كان أرصدا العمل بغير إخلاص ولا اقتداء كالمسافر يملأ جرابه رملاً يثقله ولا ينفعه. إذا حملت على القلب هموم الدنيا وأثقالها وتهاونت بأوراده التي هي قوته وحياته كنت كالمسافر الذي يحمل دابته فوق طاقتها ولا يوفيها علفها فما أسرع ما تقف به:
هل السائق العجلان يملك أمره ** فما كل سير اليعملات وخيذ(8) رويداً بأخفاف المطي فإنما ** تداس جباه تحتها وخدود من تلمح حلاوة العافية هان عليه مرارة الصبر. الغاية أول في التقدير، آخر في الوجود، مبدأ في نظر العقل، منتهى في منازل الوصول. ألفت عجز العادة فلو علت بك همتك ربى المعالي لاحت لك أنوار العزائم. إنما تفاوت القوم بالهمم لا بالصور. تزول همة الكساح(9) بينك وبين الفائزين جبل الهوى نزلوا بين يديه ونزلت خلفه، فاطو فضل ما تنزل تلحق بالقوم. الدنيا مضمار سباق وقد انعقد وخفي السباق، والناس في المضمار بين فارس وراجل، وأصحاب حمر معقرة. في الطبع شره والحمية أوفق. لص الحرص لا يمشي إلا في ظلام الهوى. حبة المشتهى تحت فخ التلف فتفكر الذبح وقد هان الصبر. قوة الطمع في بلوغ الأمل توجب الاجتهاد في الطلب وشدة الحذر من فوت المأمول. البخيل فقير لا يؤجر على فقره. الصبر على عطش الضر ولا الشرب من شرعة من.... تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها. لا تسأل سوى مولاك فسؤال العبد غير سيده تشنيع عليه. غرس الخلوة يثمر الأنس. استوحش مما لا يدوم معك واستأنس بمن لا يفارقك. عزلة الجاهل فساد وأما عزلة العالم فمعها حذاؤها وسقاؤها. إذا اجتمع العقل واليقين في بيت العزلة واستحضر الكفر جرت بينهم مناجاة. إذا ذكرته النفس زال عناؤها ** وزال عن القلب المعنى ظلامه إذا خرجت من عدوك لفظة سفه فلا تلحقها بمثلها تلقحها ونسل الخصام نسل مذموم. حميتك لنفسك أثر الجهل بها فلو عرفتها أعنت الخصم عليها. إذا اقتدحت نار الانتقام من نار الغضب ابتدأت بإحراق القادح. أوثق غضبك بسلسة الحلم فإنه كلب إن أفلت أتلف. من سبقت له سابقة السعادة دل على الدليل قبل المطلب. إذا أراد القدر شخصاً بذر في أرض قلبه بذر التوفيق ثم سقاه بماء الرغبة والرهبة ثم أقام عليه بأطوار المراقبة واستخدم له حارس العلم، فإذا الزرع قائم على سوقه. إذا طلع نجم الهمة في ظلام ليل البطالة، وردفه قمر العزيمة أشرقت أرض القلب بنور ربها. إذا جن الليل تغالب النور السهر، فالخوف والشوق في مقدم عسكر اليقظة، والكسل والتواني في كتيبة الغفلة، فإذا العزم حمل على الميمنة وانهزمت جنود التفريط فما يطلع الفجر إلا وقد قسمت السهمان وردت الغنيمة لأهلها. سفر الليل لا يطيقه إلا مضمر المجاعة. النجائب(11) لا تسأم من الوقوف على الباب ولو طردت، ولا تقطع الاعتذار ولو رددت، فإن فتح الباب للمقبولين دونك فاهجم هجوم الكذابين وادخل دخول الطفيلية وابسط كف: يا مستفتحاً باب المعاش بغير إقليد(12) لو وقفت عند مراد التقوى لم يفتك مراد المعاصي سد في باب الكسب وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه. لا انثنى عزمي عن بابكم ** إلا عثرت بأذيـــــــــــــــــــــــــالي الأرواح في الأشباح كالأطيار في الأبراج، وليس ما أعد للاستفراخ كمن هيئ للسباق. من أراد من العمال أن يعرف قدره عند السلطان فينظر ماذا يوليه من العمل وبأي شغل يشغله. كن من أبناء الآخرة ولا تكن من أبناء الدنيا فإن الولد يتبع الأم. الدنيا لا تساوي نقل أقدامك إليها فكيف تعدو خلفها. الدنيا جيفة والأسد لا يقع على الجيف. الدنيا مجاز والآخرة وطن والأوطار(13) أحدهما: اجتماع على مؤانسة الطمع وشغل الوقت، فهذا مضرته أرجح من منفعته، وأقل ما فيه يفسد القلب ويضيع الوقت. ثانيهما: الاجتماع بهم على التعاون على أسباب النجاة والتواصي بالحق، والصبر. فهذا من أعظم الغنيمة وأنفعها. ولكن فيه ثلاث آفات: الأولى: تزين بعضهم لبعض. الثانية: الكلام والخلطة أكثر من الحاجة. الثالثة: أن يصير ذلك شهوة وعادة ينقطع بها عن المقصود. وبالجملة فالاجتماع والخلطة لقاح إما للنفس الأمارة وإما للقلب والنفس المطمئنة، والنتيجة مستفادة من اللقاح، فمن طاب لقاحه طابت ثمرته، وهكذا الأرواح الطيبة لقاحها من الملك والخبيثة لقاحها من الشيطان. وقد جعل الله سبحانه برحمته الطيبات للطيبين، والطيبين للطيبات، وعكس ذلك. ليس في الوجود الممكن سبب واحد مستقل بالتأثير، بل لا يؤثر سبب ألبتة إلا بانضمام سبب آخر إليه وانتفاء مانع تأثيره، هذا في الأسباب المشهودة بالعليان، وفى الأسباب الغائبة والأسباب المعنوية كتأثير الشمس في الحيوان والنبات فإنه موقوف على أسباب أخر من وجود محل قابل، وأسباب أخر تنضم إلى ذلك السبب. وكذلك حصول الولد موقوف على عدة أسباب غير وطء الفحل. وكذلك جميع الأسباب مع مسبباتها، فكل ما يخاف ويرجى من المخلوقات فأعلى غاياته أن يكون جزء سبب غير مستقل بالتأثير، ولا يستقل بالتأثير وحده دون توقف تأثره على غيره إلا الله الواحد القهار، فلا ينبغي أن يرجى ولا يخاف غيره، هذا برهان قطعي على أن تعلق الرجاء والخوف بغيره باطل. فإنه لو فرض من أن ذلك سبب مستقل وحده بالتأثير لكانت سببيته من غيره لا منه فليس له من نفسه قوة يفعل بها، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله فهو الذي بيده الحول كله والقوة كلها فالحول والقوة التي يرجى لأجلها المخلوق ويخاف إنما هما لله وبيده في الحقيقة، فكيف يخاف ويرجى من لا حول له ولا قوة، بل خوف المخلوق ورجاؤه أحد أسباب الحرمان ونزول المكروه بمن يرجوه ويخافه، فإنه على قدر خوفك من غير الله يسلط عليك، وعلى قدر رجائك لغيره يكون الحرمان، وهذا حال الخلق أجمعه، وإن ذهب على أكثرهم علماً وحالاً. فما شاء الله كان ولا بد، وما لم يشأ لم يكن ولو اتفقت عليه الخليقة. فأما أعداؤه فينجيهم من كرب الدنيا وشدائدها وأما أولياؤه فينجيهم به من كربات الدنيا والآخرة وشدائدها ولذلك فزع إليه يونس فنجاه الله من تلك الظلمات، وفزع إليه أتباع الرسل فنجوا به مما عذب به المشركون في الدنيا وما أعد لهم في الآخرة. لما فزع إليه فرعون عند معاينة الهلاك وإدراك الغرق له لم ينفعه؛ لأن الإيمان عند المعاينة لا يقبل. هذه سنة الله في عباده. فما دفعت شدائد الدنيا بمثل التوحيد، ولذلك كان دعاء الكرب بالتوحيد ودعوة ذي النون التي ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربه بالتوحيد(14) اللذة تابعة للمحبة، تقوى بقوتها وتضعف بضعفها، فكلما كانت الرغبة في المحبوب والشوق إليه أقوى كانت اللذة بالوصول إليه أتم، والمحبة والشوق تابع لمعرفته والعلم به، فكلما كان العلم به أتم كانت محبته أكمل، فإذا رجع كمال النعيم في الآخرة وكمال اللذة إلى العلم والحب، فمن كان بالله وأسمائه وصفاته ودينه أعرف كان له أحب وكانت لذته بالوصول إليه ومجاورته والنظر إلى وجهه وسماع كلامه أتم. وكل لذة ونعيم وسرور وبهجة بالإضافة إلى ذلك كقطرة في بحر، فكيف يؤثر من له عقل لذة ضعيفة قصيرة مشوبة بالآلام على لذة عظيمة دائمة أبد الآباد. وكمال العبد بسبب هاتين القوتين: العلم والحب، وأفضل العلم العلم بالله وأعلى الحب الحب له وأكمل اللذة بحسبهما، والله المستعان. طالب الله والدار الآخرة لا يستقيم له سيره وطلبه إلا بحبسين: حبس قلبه في طلبه ومطلوبه، وحبسه عن الالتفات إلى غيره، وحبس لسانه عما لا يفيد وحبسه على ما ذكر الله وما يزيد في إيمانه ومعرفته. وحبس جوارحه عن المعاصي والشهوات وحبسها على الواجبات والمندوبات فلا يفارق الحبس حتى يلقى ربه فيخلصه من السجن إلى أوسع فضاء وأطيبه. ومتى لم يصبر على هذين الحبسين وفر منهما إلى فضاء الشهوات أعقبه ذلك الحبس الفظيع عند خروجه من الدنيا فكل خارج من الدنيا إما متخلص من الحبس وأما ذاهب إلى الحبس. وبالله التوفيق. ودع ابن عون (15) وفي الزهد للإمام أحمد أثر إلهي:
|